جاسم الحلفي
جرت انتخابات برلمان إقليم كردستان في 20 تشرين اول الجاري بسلام، رغم التوتر الذي أحاط بها في اجواء الحملات الانتخابية الحادة وتصاعد الخطاب الشعبوي الاستفزازي. فالأحزاب الكبرى بذلت جهودا غير مسبوقة في سعيها لاستقطاب أصوات الناخبين، وسط ساحة سياسية مليئة بالتناقضات والنقد المتبادل. وتباينت أساليب الحملات بين عرض الإنجازات والاعتماد على الإرث النضالي، وبين خطابات شعبوية تخاطب مشاعر البسطاء مباشرة. ورغم تأثير هذا الخطاب في كسب الأصوات، إلا أن شريحة كبيرة من الناخبين وجهت انتقادات لاذعة للأحزاب التقليدية الكبرى، متهمةً إياها بالركود وعدم معالجة القضايا الحقيقية التي يعاني منها الاقليم.
ولم تكن هذه الانتخابات حدثا عابرا في تاريخ الإقليم، فقد شارك فيها قرابة مليوني ناخب، أي نحو 70 في المائة ممن يحق لهم التصويت، في مؤشر واضح على أن الجماهير الكردستانية ما زالت تؤمن بالانتخابات كوسيلة للتغيير. وقد أسفرت هذه الانتخابات عن تقدم الحزب الديمقراطي الكردستاني بحصوله على 39 مقعدا، بينما حلَّ الاتحاد الوطني الكردستاني ثانيا بـ23 مقعدا، فتمكن من الحفاظ على بعض التوازن السياسي رغم الفارق الكبير. وصحيح أنه لم يتصدر المشهد في مدينة السليمانية، إلا أنه تقاسم المقاعد مع بقية الأطراف، مما يعكس قوته التقليدية في المحافظة. لذا لم يتمكن الحزب الديمقراطي من الانفراد بإدارة الحكم دون حاجة إلى تحالفات، سواء مع الاتحاد الوطني أو مع قوى أخرى كحزب الجيل الجديد.
والخطابات الشعبوية التي كانت ظاهرة في الانتخابات، هي سلاح ذو حدين، وقد لعبت دورا محوريا في هذه الانتخابات، واستخدمها الاتحاد الوطني الكردستاني لجذب الناخبين المترددين، مما عزز شعبيته. إلا أن هذا الخطابات قد يكون لها ثمن باهظ في المستقبل، حينما يظهر العجز جليا عن تحقيق المطالب الشعبية الحقيقية.
وتبنى الحزب الديمقراطي الكردستاني سياسة ضبط النفس، مركزا على وعود سياسية وحكومية ترسم مستقبل الإقليم. وقد نجح في استقطاب العشائر من خلال ترشيح شخصيات من شيوخها، خاصة في محافظة دهوك، وهو ما ضمن له الصدارة. ومع ذلك، فإن هذا النهج كشف عن تراجع في ترشيح كوادر حزبية ذات خبرة وكفاءة، وهو ما قد يحتاجه مستقبلًا في العمل البرلماني.
من جانب آخر فأن اليسار، الذي حصل على مقعد واحد فقط، عجز عن مواكبة اللعبة الانتخابية، رغم التزامه بها كوسيلة لا بديل عنها لإحداث التغيير. ومع عدم انجراره إلى الخطابات الشعبوية، فأنه لم ينجح في طرح خطاب نقدي تغييري جوهري يتميز به، ويكون بديلا عن خطابات القوى التقليدية. كما انه لم يتمكن من تبني احتياجات الناس من خلال حركة اجتماعية احتجاجية نشطة تعبر عن تطلعاتهم، مما أبقاه خارج دائرة التأثير السياسي الفاعل.
ومع انتهاء الانتخابات، أصبحت عملية تشكيل الحكومة المقبلة أكثر تعقيدا، ليس فقط بسبب التوازنات السياسية، بل لأن القوى الرئيسية، الحزب الديمقراطي والاتحاد الوطني، تجد صعوبة في التراجع عن خطابها الاستقطابي، الذي تبنته خلال الحملات الانتخابية. وستجسد المفاوضات السياسية بهذا الخصوص الصراع على السلطة في مشهد يتسم بالتوتر وعدم اليقين.
ورغم كل ذلك تمثل انتخابات الإقليم لعام 2024 خطوة نحو الاستقرار السياسي، لكنها أيضًا تسلط الضوء على أزمة الثقة بين القوى السياسية المختلفة، ما يجعل التحديات المستقبلية أكثر تعقيدا وصعوبة. لكن التجربة ترجح ان نشهد خطابات يسودها التفاهم، وتفاهمات حول اقتسام السلطة، وترتيبات متفق عليها لتمرير الحكومة، وان طالت المدة، وأن يتم تجاوز النبرة الحادة للخطابات التي سمعناها خلال الحملات الانتخابية.